-A +A
عصام القيسي
قلت مرة إن الكتابة في الشؤون الفكرية نوع من الولادة القيصرية، وفي بلاد العرب نوع من المشي في حقل من الالغام لاتدري متى ينفجر تحت قدميك، فلا تقتصر معاناة الكاتب على الخطوط الحمراء والاسلاك الشائكة التي تمنعه من الوصول الى الحقيقة في قصرها المرصود، ولا على مشكلات توضيح الغامض وتقريب البعيد للقارئ البسيط والقارئ الوسيط - وهي مشكلات لاشك مزمنة - بل تتعدى ذلك الى ضرورة خوض معارك ضارية من أجل تأكيد بدهيات كان ينبغي التسليم بها دون نقاض، لولا ان الخريطة الادراكية للقارئ مشوشة أو مزورة!.
والكاتب المسكين لايدري هل يصرف طاقته ووقته في توضيح أفكاره الواضحة، أم يصرفها في تعريف القارئ بمشكلات التلقي والاستقبال التي لديه، أم في بيان الأسباب الجذرية التي جعلت من القارئ كائنا مستعصيا على الفهم!.
ولكاتب هذه السطور تجربة عميقة في هذا النوع من المعاناة سواء مع قرائه أو مع طلابه في الجامعة أو مع زملائه وأساتذته ففي سوق الفكر والمعرفة، خلص فيها الى قناعات راسخة بأن العقل العربي بحاجة الى ثورة شاملة تعصف بأوهامه المقدسة واصنامه المكدسة وتعيد ترميمه وترتيبه وتأهيله بما يتناسب مع طموح أمة محترمة كان ينبغي ان توجد!.
إنني لا ارى فرقا كبيرا بين العقل العربي وسوق الانتيكا (الحراج) من حيث المحتوى! إنها نفس الادوات المستعملة والناقصة وغير المتجانسة والقديمة المهترئة والرخيصة ونفس الزبون الفقير، وما عليك سوى استبدال كلمة (أفكار) بكلمة (أدوات) لترى ان الصورة هي هي!، والراسخون في العلم يدركون هذه الحقيقة ويخافون التصريح بها لان الجمهور في زعمهم لن يتقبل منهم بسهولة ولن يرحمهم اذا غضب، وهكذا صار الجمهور إلهاً يخشى من دون الله!.
وعلى إثر سنوات من الجدل الفكري والكتابة الصحفية الناقدة لهذا العقل كان السؤال الدائم الذي اسمعه هو: لماذا تتعمد استفزاز الناس بأفكارك المخالفة والجارحة، الناس لاتتقبل من يخالف مسلماتها، وكانت إجابتي دائما: لسنا في برنامج ما يطلبه المستمعون كي نلبي رغبات الناس نحن أمام مشكلة حياة أو موت، حياة أمة ومجتمع أو موت أمة ومجتمع، ولا مهرب من مشارط النقد الجراحي وإسالة الدماء في سبيل الشفاء مهما كان الألم كبيرا، وليس طبيبا من يدخل على الأمة غرفة العناية المركزة بحبوب الاسبرين، ثم ان تاريخ الاكثرية الجماهيرية في القرآن الكريم وفي الواقع ايضا تاريخ غير مشرف «إن تتبع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله»، هذه الاكثرية ومعها اشباه المتعلمين واشباه العلماء تتناقل المعرفة من جيل الى جيل كما يتناقل المشيعون جنائز الموتى، فلا أحد يجرؤ على التفتيش فيها أو معرفة حقيقتها وما إذا كانت جنازة ميت حقا أم جنازة مخدرات كما حدث في الفيلم العربي!.
هؤلاء الفقراء الى المعرفة لايعلمون ان الأمة عاشت 1400 سنة في حالة مخاض عسير لم تجد خلالها فرصة حقيقية لنقد ومراجعة ميراثها الثقافي بمناهج علمية رصينة ومازالت تتعيش على فتات الآباء والاجداد بالرغم من كل العفن الذي اصابه! وهم لايعلمون ايضا ان كثيرا من تصوراتهم الموروثة كانت في يوم من الايام مجرد افتراضات وآراء ونظريات في رؤوس اصحابها، وهي اليوم عندنا ابقار مقدسة لايمكن المساس بها فما بالك وكثير منها اكاذيب مخترعة يفضحها المستوى الاول من التحقيق، ثم تجد بعد ذلك من يتساءل مستغربا: كيف عبد الناس الاصنام؟!.
لقد ضربت مئات الامثلة الدالة على وجود كارثة قومية اسمها العقل العربي بمضامينه الدينية والتاريخية والاجتماعية الفاسدة، وتحدث المختصون عن ضرورة تخليص الاسلام من جاهلية المسلمين ومن الزوائد الدودية التي ادخلوها عليه في سنوات القحط المعرفي والانحطاط الثقافي لكن الاكثرية التي ادمنت المشي اثناء النوم مازالت تفضل (الجني الذي تعرفه) على الحقيقة التي لاتعرفها! وليشرب العقل من البحر.

esamsk@hotmail.com